30 Apr
30Apr

المقدمة

في عالم تسوده الأرقام والمؤشرات، ظل علم الإحصاء لعقود أداة تحليلية ترتكز غالبًا على تشخيص النقص وكشف الخلل وقياس معدلات الإخفاق. هذا التوجه التقليدي، رغم ضرورته في كثير من السياقات، أدى إلى تجاهل جوانب التقدم والتحسن، وأحيانًا إلى تثبيط الجهود المبذولة عبر تقارير تركّز فقط على "ما لم يتحقق". وفي ظل هذا النقص في التوازن، جاء مفهوم الإحصاء الإيجابي كاستجابة علمية حديثة تدعو إلى إعادة توجيه التحليل الإحصائي نحو قياس الإنجاز والتحفيز، وتقديم صورة أكثر واقعية وإنصافًا للجهود البشرية.يرتكز الإحصاء الإيجابي، الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى الباحث العراقي أحمد جمال الجسار، على مجموعة من المبادئ التي تعيد تعريف العلاقة بين البيانات والتحفيز، بين القياس والتقدير. في هذه المقالة، نستعرض المبادئ الجوهرية لهذا النهج، وكيف يمكن توظيفها عمليًا في مختلف المجالات لقياس التقدم بطريقة محفزة وإنسانية.

أولًا: مؤشرات النمو والتطور

تقوم المقاربة التقليدية على تقسيم النتائج إلى نجاح وفشل، غالبًا دون أخذ التحسن التدريجي في الحسبان. أما الإحصاء الإيجابي فيقترح أن يتم قياس معدلات التقدم ومتوسطات التحسين بوصفها مؤشرات مركزية. فعلى سبيل المثال:

  • إذا ارتفعت نسبة التلاميذ المتفوقين من 60% إلى 68% خلال عام، فإن الإحصاء الإيجابي يركز على هذا النمو بنسبة 8% بدلًا من التركيز على بقاء 32% دون التفوق.
  • في بيئات العمل، يتم قياس التحسن في أداء الموظف الفردي أو الفريق على مدى زمني، لا مقارنته دائمًا بمعايير صارمة أو مطلقة.

هذا التحول يسمح بتقدير الجهود المبذولة، وتحديد عوامل النجاح الجزئي، ومن ثم تحويلها إلى محفزات للتحسين المستمر.

ثانيًا: نمذجة التفاؤل الواقعي

النمذجة الإحصائية في الإحصاء الإيجابي تتبنى ما يُعرف بـالتفاؤل الواقعي؛ أي تقديم تنبؤات وسيناريوهات مستقبلية تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المتاحة والموارد الحالية، ولكن بطريقة إيجابية تفتح آفاقًا للنمو، دون إنكار التحديات.

  • بدلاً من التركيز فقط على "الأسوأ الممكن"، يتم تصميم نماذج تحتفي بـ"الأفضل القابل للتحقيق".
  • يتم حساب حدود التحسين الممكن وفقًا لمتوسطات الأداء السابقة، وتقديمها كمستهدفات محفزة، لا كأهداف مُرهِقة.

هذا النوع من النمذجة يساعد في تقليل القلق الناتج عن التقييم، ويمنح الأفراد والمؤسسات شعورًا بالقدرة على الإنجاز.

ثالثًا: التقارير التحليلية الإيجابية

إحدى أبرز مخرجات العمل الإحصائي هي التقارير التحليلية. وضمن إطار الإحصاء الإيجابي، تصبح هذه التقارير وسيلة للتحفيز والتطوير، لا فقط أداة للمحاسبة والتقويم. المبادئ التوجيهية في إعداد هذه التقارير تتضمن:

  • الاحتفاء بالإنجازات: مثل ذكر الزيادات الملحوظة، أو تجاوز المستويات السابقة، أو تحسّن التفاعل.
  • موازنة النقد بالبناء: عند الإشارة إلى التحديات، يتم إرفاقها باقتراحات واقعية للتحسين ونقاط القوة التي يمكن توسيع أثرها.
  • لغة داعمة: يتم اختيار مصطلحات إيجابية ومحفزة مثل "تحسن ملحوظ"، "خطوات ثابتة نحو الهدف"، بدلًا من "فشل"، أو "تراجع كبير".

رابعًا: أدوات قياس التأثير الإيجابي

لتحقيق غاياته، يعتمد الإحصاء الإيجابي على مقاييس خاصة تعنى برصد الأثر النفسي والاجتماعي والمهني للعمليات والقرارات. من أبرز هذه الأدوات:

  1. مقاييس الرضا: استطلاعات تقيس رضا المستفيدين أو الموظفين أو المتعلمين.
  2. مؤشرات التحفيز: مثل الشعور بالإنجاز، أو الحماس للاستمرار، أو الرغبة في التكرار والمشاركة.
  3. مقاييس الانخراط والمشاركة: نسبة المشاركة في الأنشطة، جودة التفاعل، وعدد المبادرات الإيجابية الناتجة.
  4. مؤشرات التقدّم الشخصي: تتبع الأداء الفردي بمرور الوقت، مع التركيز على النمو الذاتي لا المقارنة المطلقة مع الآخرين.

الخاتمة

الإحصاء الإيجابي ليس بديلًا عن الإحصاء التقليدي، بل هو مكمل يعالج قصورًا معرفيًا ونفسيًا في طريقة تفسير الأرقام وتوظيفها. إنه دعوة إلى رؤية متوازنة للواقع، تعترف بالتحديات ولكن تحتفي بالتقدم، وتستند إلى أدوات علمية رصينة لا تغفل الأثر الإنساني والاجتماعي للتحليل الإحصائي. ومن خلال المبادئ التي استعرضناها، تتضح قيمة هذا النهج كأداة تطوير وتحفيز لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد لتشمل المجتمعات والمؤسسات.