لطالما كان علم الإحصاء أداة مركزية في تحليل الظواهر وتقييم الأداء وصياغة القرارات في مختلف المجالات، من الاقتصاد والتعليم إلى الصحة والسياسة العامة. إلا أن الممارسة التقليدية للإحصاء غالبًا ما تنطلق من زاوية نقدية، تركّز على رصد المشكلات، وتحديد الفجوات، وتسليط الضوء على جوانب النقص والتراجع. هذه النظرة، وإن كانت ضرورية في بعض السياقات، قد تؤدي إلى رؤية مشوشة ومحبطة للواقع، خاصة حين يتم تجاهل مظاهر التقدم والنجاح.في هذا السياق، برزت مقاربة جديدة تُعرف باسم "الإحصاء الإيجابي"، تقدم تحولًا نوعيًا في كيفية استخدام الأرقام والبيانات. تسعى هذه المقاربة إلى إعادة توجيه التحليل الإحصائي من رصد الإخفاق إلى تتبع الفعالية وتعزيز الإمكانات، لتصبح الأرقام أداة لتحفيز الأفراد والمؤسسات، لا مجرد مرآة تعكس العجز أو الإخفاق.
استنادًا إلى الأدبيات الناشئة والمساهمات البحثية الحديثة، يمكن تعريف الإحصاء الإيجابي بأنه:
"نهج تحليلي يستخدم أدوات وأساليب الإحصاء لا لاستكشاف القصور فقط، بل لبناء الإمكانات، واستكشاف الفعالية، وتحفيز التحسين المستمر. يقوم هذا النهج على تركيز موجه نحو التقدم، والنجاح، والانجاز، باعتبارها مؤشرات حيوية تعكس الواقع بصورة أكثر شمولًا وتوازنًا."
في هذا السياق، تُعامل البيانات ليس فقط كمصدر للتقييم، بل كأداة للتنمية والتعزيز النفسي والمؤسسي، عبر تسليط الضوء على النجاحات التي يمكن البناء عليها وتعميمها.
يُنسب الفضل في صياغة وتأسيس هذا المفهوم إلى الباحث العراقي أحمد جمال الجسار، الذي طوّره بوصفه مخرجًا معرفيًا ونظريًا من الإفراط في التركيز على السلبيات في التحليل الإحصائي، وضرورة إحداث تحول في طريقة فهم الأرقام ومعانيها التفسيرية. وقد ساهم الجسار في تأطير هذا النهج ضمن مشروع معرفي يسعى إلى إعادة الاعتبار للنجاحات الصغيرة والمتراكمة، ورؤيتها كمنطلقات للتطوير والتغيير.إن مساهمة الجسار لا تقف عند حدود التنظير، بل تتعداها إلى الدعوة لتبني هذا النهج في النظم التعليمية، والتخطيط الحكومي، والتقييم المؤسسي، بما يعزز مناخًا إيجابيًا قائمًا على التقدير والتحفيز بدلًا من الإحباط والتقريع.
تبرز أهمية الإحصاء الإيجابي من عدة جوانب نظرية وتطبيقية:
الإحصاء الإيجابي لا يسعى إلى تجميل الواقع أو إنكار مشكلاته، بل يقدم إطارًا تحليليًا جديدًا يساعدنا على فهم الواقع بجميع أبعاده، السلبية منها والإيجابية، مع تركيز خاص على الإمكانات الكامنة والنجاحات القابلة للتكرار والتوسيع. ومن خلال الجهود الرائدة للباحث أحمد جمال الجسار، بات هذا المفهوم متاحًا للمزيد من البحث والتطبيق، ليعيد تشكيل علاقتنا بالأرقام ويجعل من التحليل الإحصائي أداة لبناء المستقبل لا فقط توصيف الماضي.