30 Apr
30Apr

المقدمة

بينما تأسست العديد من المناهج الإحصائية التقليدية على تحليل النقص والمشكلات والانحرافات، ظهر مؤخرًا توجه جديد يُعرف بـالإحصاء الإيجابي، وهو نهج حديث يهدف إلى قياس ما يسير على نحو جيد، وما يتحسن، وما يبعث على الأمل.هذا المفهوم الذي أسسه الباحث العراقي أحمد جمال الجسار، لا يبقى حبيس النظريات أو قاعات البحث، بل يمتد بتأثيره إلى ميادين واقعية وحيوية تشمل الأعمال والتعليم والسياسات العامة والتنمية الذاتية.

في هذا المقال، نستعرض كيف تسهم تطبيقات الإحصاء الإيجابي في تحقيق أثر ملموس وإعادة تشكيل آليات التقييم والتحفيز.


أولاً: في مجال الأعمال – تعزيز الأداء من خلال الرضا والتحفيز

تُعد بيئات العمل الإيجابية من العوامل الحاسمة في دعم الابتكار والاستقرار الوظيفي. وبدلًا من التركيز فقط على مؤشرات الأداء التقليدية (كالإنتاجية أو الربحية)، يسمح الإحصاء الإيجابي بإدخال مؤشرات جديدة مثل:

  • معدلات الرضا الوظيفي: من خلال استبيانات دورية تقيس الشعور بالانتماء، والتوازن بين الحياة والعمل.
  • نسب التحفيز والإبداع: كعدد الأفكار المقترحة من الموظفين، أو نسب المشاركة في الأنشطة التطويرية.
  • تتبع تطور الأداء الفردي: باستخدام معايير مرنة تركز على التحسن الشخصي وليس المقارنة المطلقة.

الأثر: أثبتت الدراسات أن المنظمات التي تعتمد هذه المؤشرات تشهد ارتفاعًا في ولاء الموظفين، وتراجعًا في معدلات الدوران الوظيفي، وزيادة في الابتكار الداخلي.


ثانيًا: في مجال التعليم – تتبع النمو الأكاديمي والشخصي للطلاب

في النظم التعليمية، لطالما تم التركيز على التقييم من خلال الدرجات والاختبارات الموحدة، وهي أدوات غالبًا ما تهمل الجوانب النفسية والمهارية للطلاب. أما عبر الإحصاء الإيجابي، فيمكن إدخال مؤشرات أكثر توازناً لقياس:

  • مستوى المشاركة الصفية: كعدد المداخلات أو المبادرات الطلابية.
  • التحسن في الأداء الفردي: بمقارنة الطالب بنفسه لا بغيره.
  • مستوى التحفيز والانخراط: من خلال قياس الحضور الطوعي، والمشاركة في الأنشطة اللاصفية.
  • مؤشرات الرفاه النفسي: مثل الشعور بالثقة، والانتماء للمجتمع التعليمي.

الأثر: يؤدي استخدام هذه المؤشرات إلى بيئة تعلم أكثر دعمًا للطالب، مما يرفع التحصيل ويعزز بناء الشخصية.


ثالثًا: في السياسات العامة – دعم القرارات بمؤشرات التماسك والتقدم

غالبًا ما ترتكز السياسات العامة على بيانات اقتصادية أو أمنية. لكن الإحصاء الإيجابي يفتح الباب لإدخال أبعاد إنسانية واجتماعية في عملية التخطيط، عبر:

  • مؤشرات الرضا عن الحياة: التي تقيس كيف يشعر المواطن تجاه معيشته.
  • مستوى التماسك الاجتماعي: من خلال مؤشرات الثقة، والانخراط في العمل التطوعي.
  • معدلات النمو الذاتي في مجتمعات معينة: مثل المشاركة في التعلم أو ريادة الأعمال.

الأثر: تساهم هذه المؤشرات في تصميم سياسات أكثر قربًا من المواطن، وأكثر استجابة للاحتياجات الحقيقية المرتبطة بجودة الحياة.


رابعًا: في التنمية الشخصية – تحويل النمو الفردي إلى أرقام قابلة للقياس

غالبًا ما تُطرح التنمية الذاتية في شكل توصيات عامة. لكن الإحصاء الإيجابي يمنح الأفراد أدوات كمية تساعدهم على تتبع تقدمهم، مثل:

  • قياس الرضا الشخصي عن مجالات الحياة (العلاقات، العمل، الصحة…).
  • تتبع الأهداف الشهرية في التعلم أو الإنتاج أو العادات اليومية.
  • رصد مؤشرات التحفيز كعدد الساعات المخصصة للنمو الذاتي.

الأثر: عبر هذه المؤشرات، يتمكن الفرد من قياس تطوره بشكل ملموس، وتحفيز نفسه على مواصلة التحسن.


الخاتمة

إن تطبيقات الإحصاء الإيجابي تثبت أن هذا المفهوم ليس مجرد امتداد نظري لعلم النفس أو الإحصاء، بل هو ثورة عملية في كيفية قراءة البيانات وفهم الواقع. من خلال التركيز على الإنجاز والتقدم والتحفيز، يمكن للمؤسسات والأفراد والمجتمعات أن يتحركوا بثقة نحو مستقبل أكثر إشراقًا، تدعمه أرقام تعكس الجانب المضيء من الحقيقة.