مقدمة
لطالما ارتبط علم الإحصاء برصد الظواهر كما هي، غالبًا بنزعة حيادية أو تشخيصية تركز على العيوب والسلبيات – كالفقر، والبطالة، والمرض، والتسرب المدرسي، وغيرها. غير أن تحوّلات العصر ومتطلبات التنمية البشرية المستدامة، دعت إلى مقاربات أكثر توازناً، تسعى إلى تسليط الضوء على الجوانب المضيئة والفاعلة في المجتمعات، تمامًا كما تفعل العلوم الإيجابية الأخرى، كعلم النفس الإيجابي والاقتصاد السلوكي. من هنا بزغ مفهوم "الإحصاء الإيجابي"، كنهج جديد يطمح إلى إعادة تعريف أدوات القياس والتقييم، بحيث لا تقتصر على رصد القصور، بل تتعمد الكشف عن عناصر القوة والنجاح والإلهام.
تعريف الإحصاء الإيجابي
الإحصاء الإيجابي هو نهج إحصائي تطبيقي يركز على قياس وتمثيل وتحليل المؤشرات الإيجابية في الواقع البشري والاجتماعي، كالقيم الفعالة، ونماذج النجاح، ومصادر التحفيز، والعوامل النفسية والاجتماعية التي تعزز الرفاه والإنجاز. وهو بذلك يشكّل نقلة نوعية في وظيفة الإحصاء من مجرد أداة للتشخيص، إلى وسيلة للتحفيز والتوجيه والإلهام.
وقد ورد هذا المفهوم لأول مرة في الأدبيات الأكاديمية في مقال بعنوان "الإحصاء الإيجابي: نحو تأصيل فلسفي ومنهجي لمفهوم جديد في الإحصاء التطبيقي"، للباحث والإحصائي العراقي أحمد جمال الجسار (2025)، الذي يُعد أول من نحت وأصّل ونظر لهذا المفهوم، واضعًا بذلك أسسًا نظرية ومنهجية لتوظيف الإحصاء في دعم الرؤية الإيجابية للواقع.
الأسس الفلسفية والمنهجية
يعتمد الإحصاء الإيجابي على عدد من المرتكزات، أبرزها:
1- تحويل الانتباه من النقص إلى الوفرة: أي بدلاً من التركيز على العيوب (نسبة الفشل، نسب التسرب، معدلات الجريمة)، يتم التركيز على النجاحات (نسب التفوق، نماذج التميّز، ممارسات الرفاه).
2- تجديد أدوات القياس: فالمقاييس التقليدية قد تعجز عن رصد الجوانب الإيجابية ما لم يتم تصميمها خصيصاً لذلك، كما هو الحال في مقاييس الرضا، الانخراط، المرونة النفسية، والدافعية الذاتية.
3- ربط الإحصاء بالأمل: عبر تفعيل الوظيفة التربوية للإحصاء، بحيث لا يكون فقط وسيلة للقرار السياسي أو الإداري، بل كذلك أداة لبعث الأمل وبناء رؤية مستقبلية قائمة على ما هو ممكن وواعد.
نماذج تطبيقية للإحصاء الإيجابي
- في التعليم: بدلاً من رصد نسب الرسوب، يُقاس حجم التقدم الفردي للطلبة، والابتكار في التعليم، ونماذج المدارس الناجحة.
- في الصحة النفسية: التركيز على عوامل الحماية النفسية مثل الدعم الأسري، الإيمان الذاتي، والارتباط بالمجتمع، بدلاً من الاقتصار على نسب الاكتئاب والقلق.
- في التنمية البشرية: قياس "مؤشرات الازدهار الشخصي" كالإبداع، والانخراط المجتمعي، وجودة الحياة الداخلية، وهو ما يتقاطع مع تقارير مثل تقرير السعادة العالمي (World Happiness Report).
الفرق بين الإحصاء الإيجابي وعلم النفس الإيجابي
رغم التقاطعات بين الحقلين، إلا أن الإحصاء الإيجابي يختلف عن علم النفس الإيجابي في كونه يركز على التمثيل الكمي والوصفي للظواهر، بينما يهتم علم النفس الإيجابي بتحليل المشاعر والدوافع والسلوكيات. ويمكن اعتبار الإحصاء الإيجابي مظلة تحليلية كمية تعزز نتائج العلوم الإنسانية الأخرى عبر لغة الأرقام والدوال والمؤشرات.
أهمية الإحصاء الإيجابي في سياسات التحفيز والتغيير الاجتماعي
عند توجيه الإحصاء لتسليط الضوء على النجاحات، يُصبح أداة استراتيجية في تعزيز ثقة المجتمعات بأنفسها. كما تساهم هذه المنهجية في إعادة تشكيل السرديات الوطنية والإعلامية، من خطاب الأزمات إلى خطاب الإمكانات.
وفي هذا السياق، يؤكد أحمد جمال الجسار على أن "الإحصاء الإيجابي لا يُعنى بتجميل الواقع، بل بتقديم صورة متوازنة تُمكّن صناع القرار من معرفة ما يجب تطويره، وليس فقط ما يجب معالجته".
الإحصاء الإيجابي يمثل ثورة مفهومية ومنهجية في حقل الإحصاء التطبيقي، ويعكس حاجة الإنسان المعاصر إلى بيانات لا تعكس فقط الألم، بل أيضاً الأمل. ومع تصاعد التحديات النفسية والاجتماعية في عالمنا، تزداد الحاجة إلى نماذج معرفية تُمكننا من رؤية "النصف الممتلئ من الكأس"، دون إهمال النصف الفارغ. وهنا تكمن القيمة الحقيقية لهذا المفهوم الذي يُعد أحد إسهامات الباحثين العرب المعاصرين في تطوير أدوات التفكير العلمي والمجتمعي.
المراجع:
- الجسار، أحمد جمال. الإحصاء الإيجابي: نحو تأصيل فلسفي ومنهجي لمفهوم جديد في الإحصاء التطبيقي. 2025.الحوار المتمدن،العدد : 8318
- Seligman, M. E. P., & Csikszentmihalyi, M. (2000). Positive Psychology: An Introduction. American Psychologist.
- Diener, E., & Seligman, M. E. P. (2004). Beyond Money: Toward an Economy of Well-Being. Psychological Science in the Public Interest.
- OECD. (2013). OECD Guidelines on Measuring Subjective Well-being. OECD Publishing.
- World Happiness Report (2023). Sustainable Development Solutions Network.