تُعد الإحصاءات اليوم من الأدوات المحورية في فهم العالم من حولنا، إذ تسهم في توجيه القرارات، ورسم السياسات، وتفسير الظواهر الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية. غير أن تطور هذا العلم لم يكن محض صدفة أو نتاجًا تقنيًا بحتًا، بل هو ثمرة مسار تاريخي طويل تشكّل عبره وعي فلسفي متعدد الأبعاد حول معنى البيانات، وطرق التعامل معها، والغايات الكامنة خلف تحليلها. وفي هذا الإطار، يبرز مفهوم "الإحصاء الإيجابي" بوصفه تطورًا فكريًا جديدًا يسعى إلى إعادة توجيه البوصلة الإحصائية نحو رصد الجوانب الإيجابية في التجربة الإنسانية، بعيدًا عن التركيز التقليدي على العيوب والاختلالات.
1.المقاربة المعجمية للمصطلح في اللغة الإنجليزية، تُستخدم كلمة "positive" بشكل متكرر في المصطلحات الإحصائية التقنية مثل "positive correlation" أو "positive skewness"، وهي استخدامات تصف طبيعة العلاقة بين المتغيرات دون أن تشير إلى تيار فلسفي مستقل. لم يظهر مصطلح "positive statistics" في المعاجم الإحصائية الكبرى كمفهوم فلسفي متميز، بل ظل استخدامه ضمن السياق الفني أو التوصيفي. ومع ذلك، يمكن تتبّع جذور فلسفية لهذا التوجه ضمن ميادين أخرى كعلم النفس الإيجابي، وتحليل البيانات الاستكشافي، حيث يُعطى اهتمام أكبر للجوانب البناءة والمحفزة في الظواهر محل الدراسة.
أما في اللغة العربية، فقد ظهر مصطلح "الإحصاء الإيجابي" بشكل أوضح وأكثر تحديدًا من خلال أعمال الباحث أحمد جمال الجسّار، الذي قدّم تعريفًا فلسفيًا ومنهجيًا لهذا التوجه، مستندًا إلى مفاهيم من علم النفس الإيجابي والسلوك التنظيمي وعلم الاجتماع التطبيقي. ويُعنى هذا الاتجاه بتطوير أدوات وأساليب لقياس وتحليل عوامل النمو والتحفيز والرفاهية والتماسك الاجتماعي، بما يعزز من دور الإحصاء في دعم التنمية البشرية والمجتمعية الشاملة.
2.الجذور الفلسفية لمفهوم "الإيجابي"يندرج مفهوم "الإيجابي" ضمن تصنيفات فلسفية متباينة. ففي التقليد الوضعي، يُقابل "الإيجابي" النقيض "السلبي" في إطار القيم التجريبية، ويعكس ما هو قائم وملموس وقابل للقياس. أما في علم النفس الإيجابي، فقد أعيد تعريف "الإيجابية" بوصفها الطاقات البنّاءة التي تعزز من جودة الحياة، مثل الأمل، والرضا، والتفاؤل، والمرونة النفسية. هذا المعنى وجد صداه في "الإحصاء الإيجابي" العربي، الذي يسعى إلى تطوير مقاربات إحصائية تُنصف هذه الأبعاد، وتقدم أدوات لقياسها علميًا ضمن بيئات العمل والمجتمع والسياسات العامة.
3. تأصيل تاريخي للفكر الإحصائييظهر التأصيل التاريخي للفكر الإحصائي في كلا السياقين العربي والإنجليزي من خلال مساهمات مفكرين كبار: فيما يلي تلخيص للمساهمات الفارقة التي قدمها عدد من الشخصيات عبر التاريخ في مجال الإحصاء، مع الإشارة إلى المنظور الفلسفي أو الغاية من كل إسهام:
الشخصية | الفترة الزمنية | أهم المساهمات | المنظور الفلسفي أو الغاية |
---|---|---|---|
الكِندي (عربي، القرن 9م) | أول من استخدم تحليل التردد لكسر الشيفرات | تطبيق عملي مبكر للمنطق الإحصائي في خدمة التحليل والاستخبارات | |
ابن خلدون (عربي، القرن 14م) | تحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية | استخدام بيانات السكان والاقتصاد لفهم صعود وهبوط الدول عبر الزمن | |
جون غرونت (إنجليزي، القرن 17م) | أول جداول حياة، تحليل ديموغرافي | استخدام الإحصاء لفهم الصحة العامة وتخطيط الحوكمة | |
ويليام بيتي (إنجليزي، القرن 17م) | مؤسس مصطلح "الحساب السياسي" | توظيف الأرقام لفهم الدولة وتحسين إدارتها | |
فلورنس نايتنغيل (إنجليزية، القرن 19م) | رائدة استخدام الرسوم البيانية في الصحة | توظيف الإحصاء لرفع الوعي وتحسين السياسات الصحية | |
كارل بيرسون (إنجليزي، أواخر 19 - أوائل 20م) | أسس الإحصاء الرياضي، اختبار كاي تربيع | تطوير أدوات رياضية لفهم العلاقات بين المتغيرات | |
رونالد فيشر (إنجليزي، القرن 20م) | مؤسس تصميم التجارب وتحليل التباين | صياغة منهجية علمية دقيقة للاستنتاج الإحصائي | |
جون توكي (إنجليزي، القرن 20م) | مؤسس التحليل الاستكشافي للبيانات | تعزيز أهمية الاكتشاف البصري والمرن في قراءة البيانات | |
أحمد الجسّار (عربي، القرن 21م) | مؤسس "الإحصاء الإيجابي" | إعادة توجيه الإحصاء نحو قياس وتحليل العوامل الإيجابية الداعمة للنمو والتقدم البشري |
4. قراءة تحليلية مقارنة من خلال تتبّع تطور الفكر الإحصائي في السياقين، يتضح أن الإحصاء لم يكن أبدًا علمًا محايدًا أو تقنيًا فحسب، بل كان دائمًا متشابكًا مع التصورات الفلسفية والاجتماعية حول الإنسان والمجتمع. فبينما ركّز رواد الإحصاء الإنجليز على تطوير أدوات رياضية دقيقة لفهم الظواهر، نجد في التراث العربي ميلًا أوضح لاستخدام الإحصاء في تفسير التغيرات الحضارية والاجتماعية (ابن خلدون)، أو في توجيه السلوك الإنساني نحو الإصلاح (كما يظهر في الإحصاء الإيجابي المعاصر).
5. خاتمة يمثل "الإحصاء الإيجابي" تطورًا نوعيًا في الفكر الإحصائي العربي، يُعيد تعريف وظيفة الإحصاء بعيدًا عن مجرد رصد العلل والأزمات، إلى التركيز على ما يُسهم في رفاه الإنسان ونمو المجتمعات. ورغم أن الأدبيات الإنجليزية لم تبلور بعد مفهومًا موازيًا تحت نفس الاسم، إلا أن الاتجاهات المتقاربة في علم النفس الإيجابي وتحليل البيانات الاستكشافي توحي بإمكانات كبرى لهذا التوجه عالميًا. إن هذا التحول من التشخيص إلى التمكين، ومن المشكلة إلى الإمكان، يعكس اتساعًا في أفق الإحصاء ذاته، بوصفه علمًا لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسهم في إعادة صياغته.
قائمة المراجع: